موسيقى ڭناوة: إيقاع الروح وجذور إفريقيا في قلب المغرب

موسيقى ڭناوة

 إيقاع الروح وجذور إفريقيا في قلب المغرب

موسيقى ڭناوة إيقاع الروح وجذور إفريقيا في قلب المغرب


وسط أزقة مراكش، وأحياء الصويرة، وأسواق فاس، يتردد صدى نغمة غريبة، غامضة، تخترق الروح قبل الأذن. إنها موسيقى ڭناوة، الفن المغربي العميق الذي يحمل في طياته أسرارًا صوفية، وجذورًا إفريقية، وروحانية فريدة. هذا الفن ليس مجرد موسيقى، بل هو طقس، تراث، وهوية.

أصول إفريقية وهوية مغربية

تعود جذور موسيقى ڭناوة إلى العبيد الأفارقة الذين جُلبوا من مناطق جنوب الصحراء الكبرى، خصوصًا من مالي، السنغال، والنيجر، إلى المغرب منذ قرون. ومع مرور الزمن، اندمج هؤلاء في النسيج الثقافي المغربي، وابتكروا فنًا موسيقيًا يُعبّر عن الحنين، الألم، والتحرر الروحي.

ورغم أصولها الإفريقية، إلا أن موسيقى ڭناوة أصبحت فنًا مغربيًا بامتياز، يتفاعل مع التصوف، ويستمد من اللغة الدارجة والموسيقى الشعبية المغربية عناصره الخاصة.

آلات موسيقى ڭناوة

تُستخدم في هذا الفن آلات تقليدية مميزة تمنحه نغمته الخاصة:

الڭمبري: آلة وترية تشبه العود، تُصنع من الخشب وجلد الجمل، وتُعزف بإيقاع عميق يُحرّك الإحساس.

القراقب: صفيحتان معدنيتان يُحدثان صوتًا يشبه السلاسل، يرمزان إلى أغلال العبيد، ويضفيان طابعًا إيقاعيًا قويًا.

الطبل: يُستخدم أحيانًا لإضافة بعد درامي أو احتفالي في الطقوس الجماعية.


اللمسة الصوفية

يرتبط فن ڭناوة ارتباطًا وثيقًا بالتصوف، حيث يُستخدم في طقوس تُعرف بـ**"الليلة"**، وهي سهرة تمتد حتى الفجر، تجمع بين الموسيقى، الرقص، والأذكار. الهدف من هذه الطقوس ليس الترفيه فقط، بل الشفاء الروحي والتطهير النفسي.

خلال "الليلة"، يقود المعلم (وهو قائد الفرقة) فقرات موسيقية متتالية، تختلف إيقاعاتها وألوانها، وترتبط بأسماء "الأولياء" أو "الأرواح" التي يتم استحضارها رمزيًا، من خلال الرقص والألوان والملابس.

رمزية اللون والحركة

في طقوس ڭناوة، تلعب الألوان دورًا مهمًا، حيث يرتدي المشاركون ملابس بألوان معيّنة ترمز لكل روح أو طاقة، مثل الأبيض للنقاء، الأزرق للسلام، أو الأسود للألم. كما تكون الحركة الراقصة بطيئة ثم تتسارع، حتى تصل إلى حالة من الوجد الصوفي، قد تُشبه الغيبوبة.

المعلم ڭناوي: حارس التراث

كل فرقة ڭناوية يقودها "المْعلّم"، وهو موسيقي ومُنشد ومرشد روحي في آنٍ واحد. يتمتع المعلم بمعرفة دقيقة بتاريخ ڭناوة، طقوسها، وألحانها. ويُدرّب أعضاء فرقته على الإيقاع، الرقص، والتراتيل، في تسلسل تدريبي يشبه الطرق الصوفية.

الحضور العالمي

رغم خصوصيتها، لم تبقَ موسيقى ڭناوة محصورة في المغرب. فقد جذبت فنانين عالميين مثل جيمي هندريكس وكارلوس سانتانا، الذين انبهروا بروحها ودمجوا عناصر منها في أعمالهم.

كما يُقام سنويًا مهرجان ڭناوة وموسيقى العالم في مدينة الصويرة، والذي يجمع بين الفنانين المحليين والعالميين في لقاء موسيقي وإنساني مميز.

ڭناوة اليوم: بين الأصالة والتجديد

اليوم، يعرف فن ڭناوة نهضة جديدة، حيث بدأ الفنانون الشباب يُدخلون آلات عصرية مثل الغيتار والبيانو في هذا الفن، مع الحفاظ على روحه الأصلية. وبهذا استطاع ڭناوة أن يتحول من فن تقليدي إلى جسر بين الثقافات، دون أن يفقد هويته العميقة.

في الختام

موسيقى ڭناوة ليست مجرد أنغام تُعزف، بل هي لغة روحية وموروث ثقافي يعكس معاناة أمة، وكرامة شعب، وعبقرية حضارة. إنها رسالة في قالب موسيقي، تربط الأرض بالسماء، والجسد بالروح، والتاريخ بالإنسان.

تعليقات