مسجد الحسن الثاني
في رحلتي الأخيرة إلى مدينة الدار البيضاء، لم أكن أتوقع أن أكثر لحظة ستبقى محفورة في ذهني هي تلك التي قضيتها أمام مسجد الحسن الثاني. لم يكن مجرد معلم سياحي، بل تجربة حسية وروحية متكاملة، جمعت بين عظمة الهندسة وجلال الدين، وهدوء البحر وضجيج التأمل.
المكان الذي يلامس السماء والبحر
يقع مسجد الحسن الثاني على الساحل الأطلسي مباشرة، وكأن البحر يُسلم روحه للسماء عبر مئذنته الشاهقة. منذ اللحظة الأولى التي تقترب فيها من المكان، تُذهلك ضخامة البنيان ورفعة المئذنة، التي يصل ارتفاعها إلى 210 أمتار، وهي بذلك الأعلى في العالم. تشعر وكأنها تخترق السحاب، وتُعلن أن هذا الصرح ليس كباقي البنايات.
المدهش أن جزءاً كبيراً من المسجد مشيّد فوق مياه المحيط، في إشارة رمزية جميلة إلى الآية القرآنية "وكان عرشه على الماء". إنه تجسيد لحضور الروحانية في قلب الطبيعة، وعلاقة الإنسان بالخالق عبر الجمال والبناء.
هندسة تروي قصة حضارة
تم تدشين المسجد سنة 1993 بعد سنوات من العمل المتواصل، وهو من تصميم المهندس الفرنسي ميشال بينسو، لكنه بُني على أيدي أكثر من 10,000 صانع مغربي تقليدي، كلٌّ ساهم بلمسته الخاصة في الزليج، النقش، الجبس، والخشب. كل زاوية في المسجد تحكي قصة: الأبواب الضخمة المنحوتة من خشب الأرز، الأسقف المتحركة، الزليج الملون بدقة متناهية، والثريات البلورية التي تُضيء برقة المصلّى الواسع.
ورغم ضخامة البناء، لا تشعر أبداً بالرهبة داخله، بل بالسكينة. فالمسجد يتسع لحوالي 25,000 مصلٍّ داخله، وحوالي 80,000 في باحاته الخارجية، لكن الفضاء مدروس بعناية ليُشعرك بالراحة والانسجام.
الضوء، البحر، والصلاة
أكثر ما أثّر فيّ خلال زيارتي هو تداخل الضوء الطبيعي مع تفاصيل البناء. السقف القابل للفتح يسمح لأشعة الشمس أن تتسلل إلى الداخل، لتخلق حالة من السلام الداخلي. كما أن الأمواج التي تضرب الصخور أسفل المسجد تضيف بعداً صوتياً مذهلاً، وكأن البحر نفسه يُشارك في التسبيح.
عندما وقفت في ساحة المسجد لحظة الغروب، شعرت أن الزمن توقف. انعكاس الضوء على الرخام الأبيض، وهدير المحيط في الخلفية، وصوت المؤذن الذي يخترق الأفق، كلها لحظات جعلتني أُدرك كم نحن بحاجة لمثل هذه المساحات التي تجمع بين الجمال والإيمان.
ليس فقط للمصلين
ما يُميز مسجد الحسن الثاني أنه ليس فقط مكاناً للعبادة، بل أيضاً مركزاً ثقافياً وتعليمياً. يحتوي على مكتبة ضخمة، ومدرسة قرآنية، ومتحف للفن الإسلامي، كما يُفتح للزوار من مختلف الديانات والثقافات، في مبادرة مغربية جميلة نحو الحوار والتفاهم.
خلال الجولة السياحية داخل المسجد، رافقنا مرشد شرح لنا بلغة سلسة تاريخ البناء، وأسرار التصميم، والرموز الموجودة في كل جزء. وكانت الزيارة مناسبة أيضاً للتعرف على مهارات الحرفيين المغاربة الذين نجحوا في الجمع بين التراث والتقنية الحديثة.
خاتمة التجربة
الوقوف أمام مسجد الحسن الثاني كان تجربة تتجاوز حدود السياحة أو المشاهدة. هو لقاء بين الإنسان وموروثه الحضاري، بين القلب والروح، بين الحرف اليدوي والإيمان العميق. خرجت من المكان وأنا أحمل شيئاً من الطمأنينة، وشعوراً بالفخر بانتمائي إلى حضارة تعرف كيف تبني المساجد كما تُشيد القلوب.
إذا زرت يوماً مدينة الدار البيضاء، فلا تفوّت فرصة التوقف هنا. فمسجد الحسن الثاني ليس مجرد مبنى، بل قصة روح تُروى على ضفاف المحيط.