الزليج الفاسي
فسيفساء المغرب الناطقة بالجمال
في قلب المدن العتيقة، حيث تختلط رائحة التاريخ بألوان الفنون، يبرز فنٌ مغربيٌ فريد يُدهش الناظر بدقته وجماله: الزليج الفاسي، أحد أرقى الفنون التقليدية التي أنتجتها مدينة فاس، العاصمة الروحية والعلمية للمغرب، ومرآة حضارته العريقة.
ما هو الزليج الفاسي؟
الزليج الفاسي هو فن صناعة البلاط المزخرف يدويًا باستخدام الطين الطبيعي الذي يُستخرج من ضواحي فاس. يُشكّل الطين في قوالب مربعة، ثم يُطهى في أفران تقليدية قبل أن يُلوَّن بألوان معدنية طبيعية مثل الأزرق الكوبالت، الأخضر، الأصفر، والأسود. بعدها، يُقطع البلاط إلى أشكال هندسية صغيرة تُسمى "القطع"، ليُعاد تركيبها في لوحات فسيفسائية مذهلة.
تاريخ عريق
يُعتبر الزليج الفاسي من أقدم فنون الزخرفة الإسلامية في المغرب، وبدأ تطوره بشكل بارز في القرن العاشر الميلادي. بلغ ذروته في العهد المريني (القرن 13 و14)، حين تزينت به المساجد، المدارس العتيقة، والقصور. ومنذ ذلك الحين، أصبح رمزًا للعمارة المغربية الأصيلة.
سر الدقة والجمال
الميزة الفريدة في الزليج الفاسي تكمن في طريقة تركيبه اليدوي. كل قطعة تُقطع بدقة مليمترية باستخدام مطرقة صغيرة تُسمى "المنقاش"، ثم يُركّب المعلم اللوحة على الأرض رأسًا على عقب، بدون استعمال مادة لاصقة، في مشهد يشبه تركيب الأحجية (Puzzle) المعقّدة. بعد الانتهاء، تُثبت القطع بالجص وتُقلب اللوحة لتُعرض على الجدران أو الأرضيات.
الزليج في العمارة المغربية
الزليج الفاسي لا يُستخدم فقط كزينة، بل هو عنصر هيكلي وهوياتي في كل ما هو مغربي:
في المساجد: يُزيّن المحاريب والقباب بآيات قرآنية وسط زخارف هندسية دقيقة.
في الرياضات والقصور: يُغطّي الجدران والنوافير ويمنحها فخامة خالدة.
في الحمامات التقليدية: يُستخدم لكسوة الأرضيات وممرات المياه.
في البيوت العصرية: دخل الزليج اليوم في ديكورات حديثة بلمسة تراثية أنيقة.
فاس... عاصمة الزليج
لا تزال مدينة فاس تحتفظ بلقبها كمرجع أول لهذا الفن. ففي أحيائها القديمة، ما زالت الورش التقليدية قائمة، يعمل فيها الحرفيون المعروفون بـ"المعلمين"، الذين ورثوا هذا الفن أبًا عن جد، ويُعلّمونه للصغار كما يُعلَّم الحرفي الطقوس المقدسة.
الزليج بين الأصالة والعصر
رغم انتشار الزليج الفاسي في مناطق عديدة من المغرب والعالم، إلا أن الزليج المصنوع في فاس يبقى الأرقى والأكثر دقة. ومع تطور الزمن، بدأ المعماريون والمصممون الداخليون يستلهمون من هذا الفن لإبداع ديكورات حديثة تمزج بين التراث والحداثة، مثل الطاولات، الدرج، المرايا، والمطابخ.
في الختام
الزليج الفاسي ليس مجرد بلاط ملوّن، بل هو فن يعيش في كل ذرة من ذراته عبق التاريخ، ونبض الروح المغربية. هو شهادة حية على براعة الإنسان المغربي في تحويل الطين إلى جواهر، واللون إلى لغة، والنقش إلى هوية. وكلما نظرت إليه، شعرت أنك تُحدّق في قطعة من الزمن... لكنها لا تشيخ.