فن النقش على الجبس في المغرب
حوار بين اليد والخيال
من بين أروع الفنون التقليدية التي أبدع فيها الصانع المغربي وتميّز بها عالميًا، يبرز فن النقش على الجبس كأحد أرقى أشكال الزخرفة المعمارية التي تُزيّن القصور، المساجد، البيوت العتيقة، والرياضات الفاسية والمراكشية. هو فن بصري فريد يعكس الذوق المغربي الراقي، ويمزج بين الروح الإسلامية والهندسة الدقيقة والحس الجمالي.
الجبس: من مادة بسيطة إلى تحفة فنية
الجبس، في طبيعته، مادة مرنة وسهلة التشكيل. لكن حين تقع بين أيدي الحرفيين المغاربة، تتحول إلى قماش أبيض يُنقش عليه بحس فني مدهش، ليولد أشكالًا هندسية وزخارف نباتية وكتابات قرآنية تحبس الأنفاس. هذه الزخارف لا تُعدّ فقط عنصرًا تجميليًا، بل تعكس عقيدة وثقافة وهوية.
تاريخ النقش على الجبس في المغرب
ظهر فن النقش على الجبس في المغرب منذ العصور الإسلامية الأولى، وبلغ أوجه في العصرين المرابطي والمريني، حيث زخرفت به القصور والمساجد كالمدرسة البوعنانية بفاس، وقصر البديع بمراكش، ومرّ عبر العصور من جيل إلى آخر داخل الورش الحرفية العريقة، خاصة في المدن القديمة مثل فاس، مراكش، تطوان ومكناس.
تقنيات النقش ومراحل العمل
يمر النقاش الجبسي بعدة مراحل دقيقة قبل الوصول إلى الشكل النهائي:
1. تحضير الجبس: يُخلط الجبس بالماء ليصبح مادة لينة تُصب على الجدران أو الأسقف.
2. التسطير: تُرسم الزخارف أولاً بالقلم والفرجار وفق قواعد هندسية صارمة.
3. النقش: تُستخدم أدوات خاصة كالإزميل والمِبْرَد لنحت التفاصيل الدقيقة يدويًا.
4. التشطيب: يتم صقل النقوش بدقة لإبراز التناسق بين الضوء والظل، ما يمنح العمل عمقًا بصريًا.
هذه العملية تتطلب صبرًا وخبرة وذوقًا فنيًا عاليًا، ما يجعل من كل قطعة جدارية تحفة لا تتكرر.
رمزية الزخارف
يُركز النقش الجبسي المغربي على التجريد والزخرفة الهندسية، انسجامًا مع التقاليد الإسلامية التي تميل إلى تجنب التصوير. ولذلك نجد في الزخارف:
نجومًا وخطوطًا هندسية ترمز إلى الكمال والنظام الكوني.
زخارف نباتية مستوحاة من الطبيعة، تعبّر عن الحياة والخصوبة.
آيات قرآنية تُنقش بخط مغربي أو كوفي، تزيّن المحاريب والقباب.
النقش على الجبس اليوم
رغم التحديات التي تواجه الحرف التقليدية، لا يزال النقش على الجبس حاضرًا في العمارة المغربية الحديثة، خاصة في القصور والفنادق الكبرى والرياضات السياحية. كما يسعى المعماريون إلى دمج هذا الفن في التصاميم الجديدة بطريقة عصرية، دون المساس بجوهره التقليدي.
وقد ظهرت مدارس ومراكز تكوين تهدف إلى تلقين هذا الفن للأجيال الجديدة، لضمان استمراريته كموروث حضاري حي.
فن يحاكي الروح
ما يجعل النقش على الجبس المغربي مميزًا هو التفاعل البصري بين الضوء والظل، فكلما سطع النور على النقوش، خلقت ظلالها المتغيرة نوعًا من الحركة الصامتة، تُضفي على المكان روحانية وسكينة.
إنه فن لا يخاطب العين فقط، بل يخاطب الوجدان والخيال، ويُشعرك بأنك تسير في فضاءٍ مقدّس، يحمل في جدرانه قصة حضارة عريقة تُحكى بالصمت.
في الختام
فن النقش على الجبس في المغرب ليس مجرد زينة معمارية، بل هو إرث ثقافي وروحي يعكس عبقرية الصانع المغربي، ويجسد توازنًا فريدًا بين الجمال والقدسية، بين العقل واليد، بين التراث والحياة اليومية. هو لغة بصرية صامتة، لكنها تنطق بالأصالة.