الكرشة
نكهة الجدات وذاكرة الطفولة
تُعتبر "الكرشة" واحدة من أشهر الأكلات التقليدية في المطبخ المغربي، وهي طبق يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالهوية الشعبية والموروث الثقافي المغربي، إذ تُحضّر منذ قرون في المنازل والأسواق الشعبية، وتقدَّم في المناسبات، خاصة خلال عيد الأضحى، أو في الأيام الباردة كوجبة دسمة ومشبعة.
ما هي الكرشة؟
الكرشة، المعروفة محليًا بأسماء مثل "الدوارة" أو "الكرعين والدوارة"، هي أحشاء الذبيحة، وتحديدًا معدة البقر أو الغنم، تُطهى عادة مع الكبد والقلب والرئة وبعض الأحيان الأرجل (الكرعين). ويُنظر إلى هذا الطبق على أنه مثال حي على ثقافة "عدم التبذير"، حيث يتم استغلال كل جزء من الذبيحة.
رحلة التنظيف والتحضير
يبدأ إعداد الكرشة بمرحلة تعتبر الأصعب والأطول: التنظيف. فالكرشة بطبيعتها تحتوي على بقايا طعام وروائح قوية، لذا تحتاج إلى تنظيف عميق باستخدام مكونات مثل الملح، الخل، الليمون، وحتى الرماد أو الطحين. وتقوم النساء غالبًا بكيّها أو "تشويطها" على النار لإزالة الشعر وتنقيتها تمامًا، ثم تُغسل مرات متكررة حتى تصبح نظيفة وعديمة الرائحة.
بعد التنظيف، يتم تقطيع الكرشة إلى قطع صغيرة، وتُطهى في طنجرة تقليدية مثل "البرمة" أو "الكسكاس" مع تشكيلة من التوابل المغربية الأصيلة: الكامون، الفلفل الأحمر الحلو، الفلفل الأسود، الكركم، الزنجبيل، الثوم، وقليل من القزبر والمعدنوس (الكزبرة والبقدونس). يُضاف الحمص والطماطم أحيانًا، وتُترك المكونات على نار هادئة لتتجانس النكهات.
طبق شتوي بامتياز
يرتبط طبق الكرشة كثيرًا بفصل الشتاء في المغرب، حيث يبحث الناس عن الوجبات الغنية والمشبعة. وبفضل دسامته، يمنح شعورًا سريعًا بالشبع والطاقة، خاصة إذا قُدّم مع الخبز البلدي الساخن. كما أن سعر مكوناته يعتبر في المتناول، مما يجعله خيارًا مثاليًا للطبقات البسيطة التي تبحث عن وجبة مغذية واقتصادية.
الكرشة في المناسبات والأعراس
رغم أن الكرشة تُعتبر طبقًا شعبيًا، إلا أنها حاضرة في بعض الأعراس والمناسبات العائلية، خاصة في القرى والمناطق الجبلية. وتُقدَّم أحيانًا كطبق ثانٍ بعد "الرفيسة" أو "الطاجين"، وتُستقبل من قبل الضيوف بترحاب كبير، لأنها تعكس كرم الضيافة والتشبث بالتقاليد.
بين الماضي والحاضر
في السنوات الأخيرة، بدأت المطاعم الشعبية في المدن الكبرى مثل الدار البيضاء، فاس، ومراكش، تُعيد تقديم الكرشة بطريقة عصرية مع الحفاظ على نكهتها التقليدية. وأصبح بالإمكان طلبها في مطاعم متخصصة في "المأكولات البلدية"، حيث تُقدَّم في طواجن فخارية مع خبز التنور.
خاتمة
الكرشة ليست مجرد طبق بسيط من أحشاء الذبيحة، بل هي تعبير صادق عن روح المطبخ المغربي الذي يجمع بين الاقتصاد، الذوق، والتقاليد. وبين من يعتبرها "أكلة الفقراء" ومن يراها طبقًا تراثيًا فخمًا، تظل الكرشة حاضرة بقوة في الذاكرة الجماعية والذوق الشعبي المغربي، لتُثبت أن الطعم الحقيقي لا يقاس بالثمن، بل بالأصالة والمحبة التي تُطهى بها الوجبة.