فن الملحون في المغرب
شعر الشعب وروح التراث
يُعد فن الملحون من أبرز الفنون الشفوية المغربية، فهو شعر غنائي شعبي يجمع بين قوة الكلمة وعذوبة اللحن، ويعكس وجدان الإنسان المغربي وهمومه وأفراحه، بأسلوب بسيط وعميق في آنٍ واحد. إنه فن يجمع بين اللغة واللحن والتاريخ، ويُعتبر اليوم أحد ركائز التراث الثقافي غير المادي للمملكة.
أصول فن الملحون
نشأ فن الملحون في المغرب خلال القرن السادس عشر، وتطوّر خصوصًا في مدن فاس ومكناس وتافيلالت ومراكش، حيث كانت الحواضر تعج بالعلماء والحرفيين، وكانت الزوايا والطرق الصوفية تُمثّل فضاءً حيويًا لظهور هذا الفن. ويعود أصله إلى الشعر العربي الكلاسيكي، لكنه تميّز بكونه يُكتب باللهجة العامية المغربية، مما جعله قريبًا من عامة الناس.
معنى "الملحون"
كلمة "الملحون" تُشير إلى أن هذا الشعر غير معرّب قواعديًا، أي لا يخضع لأوزان الشعر الفصيح، بل يُكتب باللهجة المغربية مع احتفاظه بالوزن والقافية، ما يجعله سهل الحفظ والإنشاد. وقد استُخدم الملحون أساسًا في التعبير عن الوجدانيات، الصوفية، الحب، التاريخ، القيم الأخلاقية، والحِكم.
بنية القصيدة الملحونية
تتكوّن قصيدة الملحون من عدّة عناصر أساسية:
القصيدة أو "القصيدة الملحونية" طويلة نسبيًا، وتُقسَّم إلى "أبحور" (جمع بحر) وهي مقاطع تتبع نفس الوزن.
الدخلة: وهي مقدمة شعرية أو نداء، تمهّد للموضوع.
الربط: مقطع يُكرّر بين الأبيات، ويُستخدم كامتداد لحنـي.
القرار: هو المقطع النهائي، ويُعتبر خاتمة القصيدة.
هذه البنية تمنح القصيدة نوعًا من الإيقاع الداخلي الذي يُناسب التلحين والغناء الجماعي.
رواد فن الملحون
شهد فن الملحون بروز شعراء كبار، ساهموا في تطويره ونشره، ومن أبرزهم:
سيدي قدور العلمي: أحد أشهر شعراء فاس، كتب في التصوف والغزل.
الشيخ عبد العزيز المغراوي: شاعر غزلي عاش في العصر السعدي.
محمد بن سليمان: شاعر من تافيلالت، عُرف بحكمته ورؤاه الاجتماعية.
كما ساهمت الزوايا والطرق الصوفية في حفظ وتناقل هذا التراث، لا سيما في المناسبات الدينية والحفلات الشعبية.
فن يجمع الشعر والموسيقى
فن الملحون ليس شعرًا فقط، بل هو فن أدائي حيّ يُنشد جماعيًا أو فرديًا على أنغام آلات موسيقية مثل العود، الرباب، الكمان، والطار. وتُؤدى القصائد في جلسات تُسمى "السهرات الملحونية" أو "الحضرات"، حيث يتفاعل الجمهور مع الكلمات واللحن في جوٍ روحي ووجداني خاص.
الملحون اليوم
رغم التحديات التي تواجه الفنون التقليدية، لا يزال الملحون حاضرًا في المهرجانات الوطنية مثل مهرجان الملحون بفاس، ومهرجان سجلماسة للملحون بتافيلالت. كما تسعى العديد من الجمعيات والمؤسسات إلى إحياء هذا الفن ونقله إلى الأجيال الجديدة، من خلال برامج تعليمية وتوثيقية.
وقد ساهمت الإذاعة والتلفزة المغربية في الحفاظ على هذا الفن من خلال بث التسجيلات القديمة والجديدة لقصائد الملحون بصوت كبار المنشدين.
في الختام
فن الملحون ليس فقط شعرًا يُتلى أو يُغنّى، بل هو مرآة لروح المجتمع المغربي، يوثق تاريخه، ويُعبّر عن وجدانه، ويمنح كلماته حياة جديدة عبر الأجيال. إنه فن من الشعب وإلى الشعب، لا يزال حيًا في الذاكرة والوجدان.