إذا كان للمغرب طبق يُجسّد هويته الثقافية والاجتماعية، فهو بلا شك الكسكس. هذا الطبق العريق ليس مجرد وجبة تُقدَّم على المائدة، بل هو رمز للضيافة، العائلة، والموروث الشعبي. تتعدد طرق تحضيره من منطقة لأخرى، لكن يبقى الكسكس المغربي بتنوعه وتاريخه، من أعظم ما أنجبت المطابخ العالمية.
جذور تاريخية ضاربة في القدم
يعود تاريخ الكسكس إلى قرون بعيدة، ويُرجَّح أن أصله أمازيغي، حيث كان يُحضَّر منذ آلاف السنين في شمال إفريقيا. وقد احتفظ المغاربة عبر العصور بهذا الطبق، وطوروه وأغنوه بإضافة الخضار، اللحوم، التوابل، وحتى الحلويات، ليصبح وجبة متكاملة تُناسب مختلف الأذواق والمناسبات.
مكونات بسيطة… ونكهة عظيمة
يتكوّن الكسكس من سميد القمح الصلب، الذي يُحوّل إلى حبيبات صغيرة ثم يُبخَّر في "الكُسكسية" (وعاء خاص بالبخار)، حتى ينضج دون أن يتعجّن. أما المرافق الأساسي للكسكس فهو المرق، ويختلف حسب المنطقة والمناسبة:
كسكس بالخضر واللحم: الأكثر شهرة، يُحضَّر بالجزر، الكوسا، اللفت، القرع، الحمص، ويُضاف إليه لحم الغنم أو العجل.
كسكس بالدجاج والبصل والزبيب (التفاية): طبق فاخر يُقدَّم في المناسبات، يجمع بين الحلاوة والمالح.
كسكس بالحليب والسكر (كسكسو باللّبن): يُقدَّم في المناطق الصحراوية خصوصًا في فصل الصيف.
كسكس بالسمك: في المدن الساحلية، حيث يُطهى مع مرق السمك والطماطم.
يوم الجمعة... يوم الكسكس
في معظم البيوت المغربية، يُحضَّر الكسكس يوم الجمعة بعد صلاة الظهر. وتعود هذه العادة إلى قرون خلت، حيث كانت وجبة الجمعة رمزًا للجمع واللمة، فيجتمع الأهل حول طبق الكسكس في جو من التآزر والسكينة. حتى اليوم، لا تزال هذه العادة حية في المدن والقرى، وتُعتبر من أبهى صور التواصل الاجتماعي.
الطبق الذي يجمع ولا يُفرّق
من أجمل ما في الكسكس المغربي أنه طبق تشاركي، يُقدَّم عادة في صحن كبير، ويتقاسمه الجالسون حول المائدة. فلا أطباق فردية، ولا مسافات، بل كل فرد يغرف من نفس الصحن، في مشهد يختصر معاني الكرم، الألفة، والبساطة.
التراث العالمي
في سنة 2020، تم تسجيل "الكسكس" كتراث ثقافي غير مادي لدى اليونسكو، بشراكة بين المغرب وتونس والجزائر وموريتانيا. هذا الاعتراف الدولي يعكس القيمة الحضارية لهذا الطبق، الذي بات يُقدَّم في مطاعم عالمية ويُدرَّس في مدارس الطهي الراقية.
في الختام
الكسكس المغربي ليس فقط طبقًا لذيذًا، بل هو قصة وطنية تُحكى بالبخار، والتوابل، وحبّ الجدّات. إنه مرآة لثقافة تمتزج فيها الأصالة بالبساطة، والتقاليد بالذوق الرفيع. وفي كل حبة سميد، وفي كل رشّة كمون، تكمن ذاكرة شعب يعشق الطعام، كما يعشق الحياة.